لو أن حياتك داخل مصعد

 





وقف بثبات مُسلِّطا عينيه في اتجاه واحد، تقرعُ قدمه الارض بتوتُّر، يتنقّل ببصره بين انعكاس جسده وبين ساعته، حتى سمع الصوت المألوف

 

 صوت قدوم المصعد ...

 

دلفهُ مُسرعاً، سأله من بداخله أيُّ الطابق يرغب؟ ، أجاب باقتضاب  " الخامس"

 

 كم يكره المصاعد الا انه اضطرّ اليوم لاستخدامه لالمٍ في ساقه، يشعر بالاختناق كلما دلف هذا المكان الضيّق

 

لا يعلم لِمَ صُمّمت جدران المصاعد بهذه الكيفية المُزعجه، يشعر بها تضيق به حتى تكادُ تخنقه


 يشعرُ بالأكسجين يتناقص

 يشعر بالغرابه والصَّمت الثقيل 

 

تسمعُ همسات من حولك، تمتنِع عن الالتفاف تجاهها تجنُّباً أن تتلاقى النظرات

 

فلست سوى عابرُ ينتظر باب المصعد أن يصل لوجهته ويُفتح 

 

يطول انغلاقه ..

 

 يزداد احساسك بالوحشة، تُعلّق نظراتك ناحية الباب

 يزداد توترك، يتصاعد قلقك، يخفق قلبك، يبدأ العرق يغزو جسدك 

 

فما بال باب المصعد قد طال سكونه، لماذا لا يُفتح ؟.. 

 

تكسر قاعدتك التي شيّدتها لنفسك، وتبدأ بتحويل انظارك ناحية الحشود، تتأمّل ملامح تراها لأوّل مرّة، ملامح لا تُشبهك في شيء الا في خطوط القلق التي اعتلت وجوههم فالكل قد شخصت أبصاره ناحية الباب ينتظر وصول وجهته

 

تصطدم عينيه بذاك الشخص الواقف في زاوية المصعد، تعتلي ابتسامه غريبه مُحيّاه، وكأنَّ لا شيء مما يحدث من قلق يعنيه، يقف بكل هدوء وسط الحشود الشاخصه

 

مابه يبتسم؟ 

 

 هل هو شخص طبيعي؟

 

 هل هو انسان خُلق مثلنا من مشاعر وأحاسيس؟

 

 كيف يُمكن لايّ كان أن يرسم على وجهه مثل تلك الابتسامه البلهاء وكأنّ لاشيئ مما يحدث يستحق 

 

الا يشعر بالإختناق الا ينقصه الأكسجين يوزّع ابتسامته لكل من حوله، أيحاول استفزازهم؟ 

 

شعر بغضب عارم يجتاح كيانه، كيف لهذا الاحمق أن يسمح لنفسه بحمل كل تلك اللامبالاة ؟ شعر بالحنق تجاهه تمنّى لو بامكانه الوصول اليه وانتزاع تلك الابتسامه المُهينه من على وجهه

 

فعلى الكل أن يمتثل لقوانين المصعد، قوانين الصمت والترقب ..

 

 قوانين لا أحد يعلم من وضعها ولكنها يجب أن تُحترم ويُلتزم بها

 

أعاد ببصره ناحية الحشود هل هناك من لاحظ هذا الاحمق؟، هل هناك من سيأخذ زمام الأمور، ويُلقنه درساً في السلوك؟ 

 

لم يرَ في وجه أحدهم أيّ أمل في التصرف فأشاح بوجهه عنهم، فماله والآخرين فاليذهبوا جميعهم الى الجحيم ، يكفيه ما به من عناء

 

 أعاد بنظراته الحانقة ناحيه باب المصعد

 

 لعنه بداخله كثيراً فقد طال انغلاقه ...

 

 

ما بال أعينٍ تنظرُ الينا ولا ترانا

 



Awesome Tips and Examples of Out of Focus in Photography

 

خرجت العائلة في نزهه لأحد فعاليات " موسم الرياض "، خرجوا للمُتعة، للترويح عن النفس، لنفضِ تعب أيّام الأسبوع، ولم يدر بخُلد أحدهم أنّ السياره اللتي تقلّهم الى طريق المُتعه ستعود بهم مُحملّين بالفراغ 

  

 

اختفى فجأه ..


بحثوا عنه في كافة أنحاء المكان دون أن يجدوا له أثر، انتظروه عند باب الخروج

 

خرج الناس على دفعات يتضاحكون، مُنتشين بالمتعه، يمرّون على عائلة ترتجف خوفاً دون أن يلحظوا من مشاعرهم وخوفهم شيئاً 

 

أُغلقت أبواب المنتزه، تفرّق الناس وعادوا الى منازلهم، عادوا مخلّفين وراءهم عائلة أصابها هلع الفقد

 

أبلغهم الشرطي انه لا فائدة من الانتظار، وأن يعودوا للمنزل وسيتم إبلاغهم إن وجودوا أحد بمواصفاته

 

لاحَ فجر يومٍ جديد، كشيئ اعتاد عليه أصحاب تلك المدينة، الا أن فجر منزل خالتي لم يكن فيه من المُعتاد شيئ

 

رنّ هاتف الأب، حادثه الشرطي بأنهم وجدوا شخصاً لديه المواصفات ذاتها التي تم الابلاغ عنها، ذهب وكل مافيه يتمنى أن أيّاً من كان على سرير المشفى لا يمتّ له بصله 

 

الا أنّ الأماني لا تتحقق دائماً، حلت الفاجعة، لقد مات الابن في حادث سير وتوفى على أثرها 


توفي قريبي، توفي ابن خالتي ... 

 

شبح الفقد حلّ على منزل خالتي كابوساً مُزعجاً لم يستطع أحد منا الاستيقاظ منه 

 

ابن خالتي الذي فارقنا وهو في زهرة شبابه لم يتجاوز عقده الثاني من العمر كان ذكياً فطناً خجولاً هادئاً 


.

.

 

بعد تلك الحادثة بشهرين، عبرتُ طريقي المُعتاد من مقرّ عملي الى النادي الرياضي، كان الجوّ غائماً، انسابت قطرات المطر مُلامسه خدي، شعرتُ بقشعريره ولسبب لا أعرفه أتى طيف ابن خالتي، خالجني شعور عميق بالألم ..


أن تُتاح لنا فرصة عيش يوم جديد، نُلامس فيه قطرات المطر، وآخرون  كانوا لنا يوماً أحبّه قد صاروا تحت التراب طُويت لهم صفحة الحياة نهائياً 

 

فلا شمس ولا مطر، لا أمنيات ولا أحلام 

 

تفكّرت كيف أننا لا نملك ذواتنا ولا أبنائنا فهم ليسوا لنا، نحن هنا للحظات مجتمعين ومتفرقين في ذات الوقت

 

فكيف لأم أن تدع ابنها ينام بعيداً عنها، وكيف لابن أن يقضي ليلته تحت صمت الليل المُطبق، وحيداً بلا رفيق 

 

كيف نُدخل بأيدينا أحبابٌ لنا تحت التراب ونحثها عليهم ثم نتركهم وراءنا !!؟ 

 

حقيقة مؤلمه أنَّنا لا نستطيع حماية من نُحبهم من الموت مهما بلغ ارتباطنا بهم.. لا نستطيع دفع الموت عنهم وإن أتاهم وأبقى لنا أجسادهم..  فما لنا في أجساد قد فارقتها روح الحياة

 

ما بالُ جسد نائم دون حراك

 

 وما بالُ أعينٍ شاخصه تنظر الى أحبتها دون أن تُبصر دموعهم لتعود اليهم .. 

 

ما بال أعينٍ تنظرُ الينا ولا ترانا ...

بنك الآلام

كم بإمكان المرء أن يتحمّل من الآلام ؟ ..

كم من طاقة يمتلكها ذلك الكائن البشريّ لاستيعاب ضجيجٍ من الآهات تملأُ فؤاده، تجتمع داخله فيصرخ صرخة مكتومه لا يسمعه فيها أحد

.
.


هو هناك وحيدٌ في ظُلمة حالكة

وحيدٌ وسط كل تلك الآلام، داخل ظلام يبتلعه دون أن يلحظه أحد

 هل هناك من يملكُ الشفاء؟

 من ينتزع عنه الالم، من يجعل صرخاته تشقّ طريقها لكلّ أذنٍ صمّاء

كم سيصمُد، كم سيتحمّل ..

 تكالبت عليه الهموم والآلام ولا أحد يهتم

يُؤلمه قلبه يكاد أن يشقّ صدره الى نصفين

يا لهذا الالم القاتل

هل هناك شارٍ لآلامنا فتُعطى له ؟

هل هناك مُخلّص لنا منها،، يُخرجها من أجسادنا لتُرمى بعيداً ؟

.
.
.

تململَ في كرسيّه، لا ينكفئ عن النظر الى ساعة مِعصمه يتحيّن حلول وقت انتهاء العمل

تأمّل زملائه الجالسين باسترخاء على كراسيهم، يرمون على بعضهم النكات البذيئة ويضحكون، كل يوم في مثل هذا الوقت وقبل انتهاء العمل بساعه يترك زملائه في المكتب أعمالهم يُطفؤون أجهزتهم وتبدأ المحادثات 

ينتهي العمل ساعه قبل نهايته الفعلية ويبدأ ساعه بعد بدايته  الفعلية، فتنكمش عدد الساعات، ومع ساعة الغداء التي تمتدّ في أحيان كثيرة الى ساعتين تُختزل ساعات العمل الى النصف، هو الوحيد من بينهم الذي يعمل خلال ساعات العمل التسع كامله، فيأتي قبل الوقت ليس حُبا في العمل لكن.. لأنه لا يجد سببا ليتلكّأ في منزله قبل الحضور، فلا أبناء ليوصلهم الى المدرسة، ولا زوجه تسلب منه النوم

يقضي ساعة الغداء في مكتبه، فلا يُحب الخروج لاكتظاظ أغلب المطاعم المجاورة بالموظفين وهو يمقُت الزّحام

ضجّ المكتب بالأحاديث والضحكات، كم يُزعجه حديثهم، لا يُحب التواصل معهم، يتجاهل تعليقاتهم ويُخبئ رأسه خلف جهاز الحاسب يشغل نفسه باي شيء، 

مع الوقت اعتاد عليه الزملاء فلم يعودوا يلقوا له بالاً

أشارت الساعة الى الخامسة مساءً، لملمَ أغراضه سريعاً وخرج من المكتب، شعر كمن يخرج من سجن انفرادي أطال المكوث فيه، اقترب من سيارته فلفحته شمسٌ حمراء على وشك الغروب، توقّف ونظر الى أشعتها الممتدة التي تتخلّل الأشجار التي تُزيّن المكان، شعر بألم يعتصر قلبه، يؤلمه الغروب كُلّما حل، يُثير فيه مشاعر غريبه، وكأنّ الشمس هي رفيقته الوحيدة في دُنيا لم تُبقي له أحد

ركب سيارته واستعدّ للانطلاق

أدار مذياع السيارة بحثاً عن أحد البرامج المُسليّة، يسمع القليل منها وتسرق تركيزه الأفكار في أغلب الوقت

دخل منزله الصامت، صمتٌ مُطبق يستقبله كل يوم، لم يُشعل أضواء المنزل بل اكتفى بالضوء الذي يأتيه من الخارج فكّر في اقتناء حيوان اليف يُضيف بعضاً من الحياة لقبره الموحش، الا أن الفرصة المناسبة لإحضاره لم تحن بعد 

القى بجسده المُنهك على الأريكة أراح رأسه وأغمض عينيه، يعود كل يوم الى المنزل بشعور صارخ من الالم في كل مفاصله، رغم أن عمله لا يتضمن أي جُهد بدني الا أن الضغط النفسي التي تحدثه أفكاره السوداوية القاتلة تُهلك جسده، لا يعرف كيف يتعامل مع تلك الأفكار التي تفرز الألم فرزا في كل خليه من خلاياه، يُحاول عبثا البحث عن مصدرها للتخلّص منها

 تبدأ بغزوه واقتحامه منذ أن يفتح عينيه للنظر الى يوم جديد لا جديد فيه، تتدافع فيما بينها لاغتنام فرصه الاستيلاء على أكبر قدرٍ منه

 شعر بالجوع يقرصه، تذكّر أنه لم يتناول الطعام منذ الصباح الباكر والذي اكتفي فيه بكوب من القهوة مع بسكويت مالح

انتشل جسده المتهالك مُتجهاً الى المطبخ، فتح "الفريزر" يبحث عن شيء يُؤكل، وجد قطعة بيتزا لا يذكر متى أكل النصف الاخر منها، أخرجها والقى بها داخل جهاز "المايكرويف"

سحب لنفسه كرسي وجلس ينتظر سماع صافرة الجهاز

تأمّل المطبخ، كان ما يزال كما تركته عندما غادرته الى الابد لم يمسّ شيئا منه كأنها ما تزال في الأرجاء 

هي من قامت بتصميم أثاث المطبخ مملكتها كما كانت تُسميه، اختارت الألوان رغم أنها لم ترقَ لذائقته الا أنه خضع لرأيها، ترتيب الاواني بطريقتها الخاصة، كل شيء ظل كما كان، الاواني الزجاجية في الأعلى، المواد الحادة في أدراج مُقفلة، كانت تهتم بالتفاصيل وتقول له علينا أن نكون أكثر حذراً حتى اذا ما امتلأ منزلنا بالأطفال نكون مطمئنين أن لا حوادث مُزعجه ستحدث

لم يحضر الأطفال وغادرت الزوجة وبقيت الاواني تقبع في مكانها ..

بدأت ذكرياته معها تزحف ببشاعة نحوه، ذكريات زوجته التي هجرته منذ سنتين، يكره الاعتراف بأنه يشتاقُ اليها، تركِها له دمّر ما تبقّى منه، الا أنه لا يمكنه أن يلومها، فقد احتملت ما يمكنها احتماله، تحمّلت موجات الاكتئاب التي تجتاحه، انعزاله عنها لأيام رغم الحاحها عليه أن يعرض نفسه على طبيب نفسي عله يجد العلاج

في أحد الأيام عندما زادت وتيرة التوتر بينهما وتعب من الحاحها المتواصل، فقد أعصابه وصرخ فيها غاضبا أن تكفّ عن ازعاجه، فهو لا يحتاج الى شيء، كل ما يُريده هو أن تغرب عن وجهه وتبقيه وحيداً،

 لم يدر بخلده أنها قد تأخذ كلامه على محمل الجد، من غرفته سمع صفق الباب

 ذهبت ولم تعد ..

كان كل يوم يعود الى المنزل يُمنّي نفسه بأن يراها، الا أن أمنيته لم تتحقق وظلّت مُعلّقه، يؤلمه أنها هجرته بدون كلمة وداع، بدون أن تغضب منه، أن تنتقم من تجاهله لها، هكذا خرجت بكل هدوء، تاركةً إياه وحيداً مع رفيقه الدائم " الاكتئاب" 

دوى صوت الجهاز ليعيده الى واقعه، أخرج "البيتزا" وشعر أن فقدان الشهية بدأ يهاجمه الا أنه أجبر نفسه على تناولها، أنهى طعامه والقى طبقه في المغسلة مع بقية الاطباق المُتراكمة التي اكتظت بها المغسلة تكاد تختنق 

اتجه الى غرفة النوم، ابتلع حبوبه المنوّمة وانتظر بدء مفعولها 
.
.
.

زحفت أشعة الشمس تجاه عينيه، وضع يده حاجباً أشعّة الشمس المُزعجة عنه، تبّاً لتلك الستائر الباليه لا تحجب عنه شيء من أشعة الشمس 

نهض بألم شديد في مقدمة رأسه ابتلع حبّة صُداع من علبه بجانب سريره لا تفارقه أبداً، تأمّل الصباح الذي مازال يُصرّ أن يزوره كل يوم، يتمنى دوماً حلول اليوم الذي يغمض فيه عينيه فلا يفتحهما أبداً، الا أن الصباح يأتي في كل يوم مذكرا له بأن عليه أن يعيش يوما آخر في صُحبة آلامه

فكّر كثيراً في وضع حدٍّ لحياته بعد أن هجرته زوجته وساءت حالته، تصفّح مواقع عدّة عن طرق للانتحار بدون الم، الا أنه لم يملك الجرأة على فعلها

 الحقيقة أن لا أحد سيفقده، قد يظل ميتاً لفترة طويله في منزله حتى تتفسخ جثته وتبدأ الروائح الكريهة تنفذ الى الجيران، حينها فقط سيكتشفون وفاته

نهض من فراشه مُتجهاً الى الباب لاستلام جريدة اليوم

وقعت عيناه على عنوان كُتب بالخط العريض ..

بنك الآلام

لمن يملكُ فائضاً من آلامه، نحن هنا لنُخلّصك منها

كُتب تحت العنوان

" تم افتتاح البنك الأول من نوعه في المنطقة

بنك للآلام، نحتفظ بآلامكم لمن يُريد أن يتخلّص منها، فهناك فائضٌ منها عند الكثير

تبرّعك بها يوهبها لمن أتخمتهُ الحياة ترفاً وخواءً

فالألم هو من يصنع إنسانا فريداً، يتميّز به عن غيره "

انتهى المقال، بحث عن رقم للتواصل، وجده في ذيل الصفحة، سارع للاتصال بهم وأخذ العنوان 

استقلّ سيارته وأسرع بالذهاب إليهم ،،

" بنك للآلام "، لم يسبق له أن سمع شيئا من هذا القبيل، هل حقاً هناك من يمكنه أن يأخذ آلامه ويخلصه منها! 

كانت الشوارع خاليه من السيارات في هذا الوقت المُبكّر، ففي نهاية أسبوع شاق كان كل ما يريده السُكّان  العاملون المنهكون بعد أسبوع زاخر بالعمل هو الحصول على أكبر قدر من النوم والراحة في منازلهم 

توقّف عند باب المبنى، تأمّل العبارة المكتوبة 

بنك الآلام 

حيث يكمُن خلاصك ..

دلف الى الداخل، استقبله موظف الاستقبال بابتسامه تعلو محيّاه 

قال له مُرحّباً " أهلا بك في بنك الالام، مُتبرع أم مُتلقي؟ "

" مُتبرّع "

" يُسعدنا خدمتك، هل هذه الزيارة الأولى لك ؟

نعم

أخرج له ورقه " أرجو منك تعبأة هذا الاستبيان، بعدها يُمكنك الدخول لرؤية الطبيب آخر الممر جهة اليسار "

" هل الموضوع بحاجه الى طبيب ؟ "

" فقط للاطمئنان على صحتك العامّة وأخذ تاريخك المرضي قبل القيام بعملية التبرّع، عمل روتيني يجب القيام به "

نظر الى ورقة الاستبيان مطلوب منه كتابة بياناته الشخصية بما فيها عمره، حالته الاجتماعية، درجته العلمية، إن كان موظف أم عاطل، هل سبق له التعرّض لأي إجراءات جزائية

قام بتعبأة كامل الاستبيان وتسليمه لموظّف الاستقبال، وضعها في ملفه الذي استحدثه توّاً باسمه 

تفضّل معي، اصطحبه الى مكتب الطبيب 

طرق الموظف باب العيادة فسمع من خلفه صوت الطبيب يأذن له بالدخول 

استقبل الطبيب المُراجع الجديد بابتسامه 

أهلا بك، وقف لمُصافحته " أنت من أوائل من يأتي للتبرّع بألمه، فمازالت الناس غير مُقتنعة بالكيفية التي سيكون بها التبرّع بالألم "

" لن أطيل عليك أحتاج منك تعبأة هذه الأوراق ليكون لدينا سجلات بمعلومات المتبرعين، نحتاج أن نعرف قليلا عن حياتك الشخصية ونوع الألم الذي تحمله، حتى يتسنى لمن يرغب بتجربة المك أن يعرف شدّته،، واطمئن ستكون معلوماتك الشخصية في سريه تامه "

استلم منه ورقة التبرّع، سجّل بها كافّة المعلومات المطلوبة وسلّمها للطبيب

بعد دقائق اصطحبته المُمرضة لغرفة التبرع

استلقى فوق السرير الأبيض، نظفت مكان الحُقنه بالكحول ثم غرست الإبرة بداخله، كانت كبيره فآلمته قليلاً

نظرت اليه " هل تؤلمك؟ "

" قليلاً "

" قد تشعر بشيء من التنمّل في يدك لكنها أعراض مؤقته ستزول سريعاً "

يربط الإبرة سلك يصل الى جهاز مربوط في نهايته كيس صغير

بدأ سائل بني مصفرّ يخرج منه، بدأ التنمل يغزو يده مع حرارة غريبه، شعر بالدوار 

أغمض عينيه وحاول التركيز على أنفاسه ليهدأ نبض قلبه، شعر بجسده يذوب في الفراغ ..

أتاه صوت الممرضة بعيداً غريباً: " انتهينا" 

" هل هذا كل شيء ؟ "

" نعم "

" هل يعني ذلك أني تخلصت من آلامي كلها ؟ "

" بجزء منها، فلا يمكن أن نأخذها دفعه واحده فقد يكون لها مضاعفات، هل تشعر بالدوار؟ "

" قليلاً "

" يُفضّل أن ترتاح قليلا حتى يهدأ جسدك "


أخذت الكيس الممتلئ بالسائل الذي خرج منه، سجلت عليه الرقم التسلسلي وتاريخ التبرُّع وخرجت

.
.
.


أضواءٌ صاخبه تُشعل المكان ، طنين حاد بدأ يدبّ في أذنه اليمنى

شعر بعينها تحوم حوله تتفحّصه وتكاد تخترقه، تقدّمت نحوه وجلست على الكرسي المُجاور له مالت اليه بغنج مُحاولة لفت انتباهه، الا أنه تجاهلها وأشاح بوجهه بعيداً، في وقت آخر ما كان ليفوّت فرصه كتلك لكنه اليوم لا يشعر برغبة لخوض أي مُغامرة، نهض من مكانه وغادر المكان

لمح الإهانة التي رُسمت على وجهها الجميل الا أنه واصل طريقه نحو المخرج

 خرج ليملأ رئتيه بشيء من الهواء النقيّ بعيدا عن ضجيج الداخل، أخرج من جيبه عقب سجائر قام بإشعاله، أخذ نفساً عميقا يريده أن يصل لكل جزء منه ويشعر باحتراقه، سمع صوتا يناديه من الخلف

كان آدم صديق مغامراته

" هيه، هل سترحل الان؟ مازال الوقت باكراً "

" أشعر بدوار ولا رغبة لي بالبقاء هنا مع هؤلاء البشر"

" هؤلاء البشر!! كنت واحداً منهم قبل دقيقه فماذا حصل ؟"

لم يجبه

" ماذا بك هل أنت بخير، لا تبدو على ما يرام، هل هناك ما يزعجك ؟"

أجاب بعد صمت 

 " هل سبق وشعرت أن حياتك لا معنى لها، تمضي خاوية كل يوم تفقد نكهتها، وأنك ترغب بشيء آخر أكثر عُمقا ومعنى ؟

" ما هذا، من الذي يتحدث أمامي هل أنت في طور التحوّل الى فيلسوف أو شاعر ؟ "

" لا تسخر مني، أجب عن سؤالي أو أغرب عن وجهي "

"مممم، نعم فقبل يومين غيرت نوع السجائر الذي استخدمه لأني احتجت شيئا أكثر عمقا"

حدجه بنظره ناريه فابتلع ريقه وأضاف مستدركاً محاولا تمثيل ملامح عمق التفكير في وجهه

" الحقيقة أني لم أفكّر في تلك التفاصيل ، فكما تعرف فأنا أعيش كل يوم بيومه، أهذا ما يطلبه منا مدعون تطوير الذات عيش اللحظة وعدم التفكير في شيء آخر 

 ولماذا أفكر وأشغل عقلي بترهات، أملك المال وهو المهم، أستطيع الحصول على من أشاء من النساء  

 أستطيع أن أقتلع اسمه من الحياة إن حدث وقرّر شخصٌ ما أذيتي "

ضربه على كتفه " هيه، هيا إنها فقط مشاعر خرقاء عابرة سترحل، لا تشغل لها بالاً، صدقني كأس من شرابك المُفضل وستعود حالتك الى طبيعتها، وسيرحل عنك الناسك الاخرق "

" أنت لا تفهم، ما أشعر به شيء مُختلف، شيء غريب يلاحقني وكأنه ظلال لا ينفكُّ عن محاولته الدائمة لابتلاعي"



بعد قليل أتت احدى النساء تمسك بذراعه " هيا آدم لنعُد الى الداخل "

" أنظر لا أعلم ما الذي المّ بعقلك من أفكار، لكنها سترحل سريعاً، عُد الى المنزل وخذ قسطا من الراحه وستستيقظ وتعود كما كنت ، ثم غمز وأضاف بخبث أما أنا فعلي التعامل مع عمقي الخاص  فهو يناديني الان وعلي أن أذهب "

نظر اليه بازدراء وهو يختفي بداخل المبنى

 قرّر أن يتمشى قليلا بمحاذات المحلات التجارية ليملأ رئته بالمزيد من الهواء، ففي هذا الوقت تقل فيه السيارات فتشعر بصفاء الهواء لا تلوثه أعدمه السيارات

كان الهواء عليلا ومُنعشا، لا يعرف ماذا أصابه، لم تتملكه تلك المشاعر مُسبقا، منذ أسابيع وهو يشعر بشيء يجثم على صدره، فراغ لا يعرف مصدره

عاد الى شقته، لم يسبق أن دخلها قبل حلول الضوء، تبدو غريبه وصامته في هذا الوقت جلس على كنبته الوثيرة، دفن رأسه بداخل كفّيه 

ماذا يحدث لي ..

زفر في ضيق، ضغط على رأسه وهو يحس بألم يكاد يشق رأسه


أمسك هاتفه المحمول وقرر الاتصال على مستشاره وصديقه المفضّل في مثل هذه الحالات، فلكلّ موضع هناك الصديق المناسب 

أجاب بعد الرنّة الأولى

" هيثم، اهلا بك أي رياح طيبه أتت بي الى ذهنك "

" مُراد، أريد منك نصيحه، أشعر بفراغ قاتل، أحتاج الى شيء قبل أن أجنّ "

" ماذا بك ..؟ "

" لا أعلم أشعر بفراغ عجيب أشعر بالصدى يتردد داخلي، أشعر بأني بحاجة الى شيئ مُختلف، حياة أخرى أريد أن أملك القدرة على التأثير، أن يكون لي بصمة في هذه الحياة "

صمتٌ مُطبق من الطرف الاخر

 أضاف بنفاد صبر: "هل مازلت معي ؟"

" نعم، لكن، هل أنت حقاً هيثم ؟ "

" مُراد لا تستفزني "

" لا أقصد،، ولكن استغرب أن هذا الكلام يخرج منك، منذ متى وأنت تشعر بذلك ؟ "

" منذ مُدّة حاولت تجاهلها،  وبأنها ليست سِوى حاله عابرة وستمضي، الا أن الوضع بات يزداد سوءً ويخنقني "


" هل تعتقد أن السفر الى مكان جديد ربما قد يحل المشكلة "

" لا، لا أريد الذهاب لأي مكان قد زرت بقاع الأرض جميعاً ورأيت معالمها ونسائها وخباياها ..

 أريد شيئاً جديدا وغريباً لم يُجربه أحد من قبل، تحدّي لم يسبقني به أحد "

 صمت وهو يفكّر، لمعت في عينيه إجابه صامته

شعر بتردّده فهو يفهمه جيداً " ماذا؟ هل يدور في خلدك شيء؟ "

" الحقيقة هناك شيء لكن ،، لا أعلم عن مدى جدواه "

" ما هو؟  قل "

" سمعت بأن هناك بنك جديد فُتح في المنطقة "

" بنك، وماذا أفعل به !!"

" ليس من فئة البنوك المعروفه، البنك من نوع آخر، بنك للآلام "

" بنك الآلام ؟! "

" نعم، يُقال إنه مفتوح لمن يريد أن يتبرّع بآلامه ولمن يُريد أن يحصل على جرعات منها "

" وماذا أفعل بالآلام؟ "

يقول الإعلان:

" إن عجزت عن إيجاد معنى لحياتك، فنحن نُرحب بك في بنك الآلام

 احصل على الجرعة الملائمة واحقن بها جسدك، انتظر دقائق ليبدأ مفعولها 

ستتفجر فيك القرائح والمواهب، ستغدو شاعراً موهوباً، رساماً متميزا أو كاتبا روائيا متفرداً، ستجد طريقك في الحياة، ستستمع بالألم وبرحلته

قد يخف تأثير الألم، فلا باس نُرحب بعودتك الينا للحصول على المزيد فلدينا فائضٌ منها فأعداد المتبرعين بازدياد "


صمت، مُحاولاً تشرّب الفكرة ومراجعتها في رأسه

" يبدو الامر مشوقا "

" لم لا، لنذهب ونتعرّف على آلام الاشقياء من بني البشر "

.
.
.


صافحه الطبيب مُرحّبا " اهلا بك"

" اهلا "

" إذا أنت ترغب بالحصول على جرعات من الآلام؟ "

" نعم "

" حسنا، عليك أولا تعبئة نموذج يضمّ معلوماتك الشخصية، ونعدك بأنها ستكون في سريه تامه "

" هل جربت أن تتلقى جرعه من الالام مُسبقا ؟ "

" لا "

" جيد، قبل أن نبدأ أحتاج أن أعرف منك نوع وشدة الألم الذي ترغب فيه، فللألم درجات تبدأ من الخفيف لأكثرها شدّة ، ولأنها المرة الأولى لك فأنصحك بالنوع الخفيف حتى نرى تأثيرها عليك ثم لاحقا إذا رغبت نستطيع أن نغير لك درجة الألم "

" وهل حقا سأغدو شخصا مميزا بذلك الألم؟ "

" يعتمد على الم المُتبرع الذي ستتلقى ألمه، فكما ذكرت سنبدأ بالألم الأقل شدة "

أخرج من درج مكتبه ملف سميك يحوي قائمة المُتبرعين، لنرى 

لدينا هنا شاب في مُقتبل العمر تبرع بألمه،، سببه امرأه أحبها وهجرته

" لا، يبدو من الألم التافه جداً، أرغب بشيء أكثر عمقاً "

عاد ينظر الى قائمة المتبرعين 

هنا، امرأة تم الاعتداء عليها من قبل مجموعه من الرجال، اسقطت عنهم جميعا التُهم بسبب أسمائهم اللامعة

وهنا، ألم أم فقدت حياة أبنائها جميعاً في حرب أهلية غزت بلادها

" لا أريد شيئا من آلام النساء، أريد الحصول على آلام الرجال "

" أُفضّل ذلك أيضاً فآلام النساء أشدّ "

" هنا شيء قد يُلائمك أكثر "

ألم رجل فقد عمله بسبب انهيار الاقتصاد، وشاخ بفعل المرض وهو الآن يعيش وحيداً في الشوارع بلا مأوى

" يبدو هذا جيداً سأجربه "

وصف له الحقنه وأعطاه إرشادات استخدامها

" عُد اليّ بعد أسبوعين لأرى النتيجة، وحاول أن تبدأ بكتابة ما تشعر به كل يوم، نحتاج أن نتثبت من فاعلية كل آلام المتبرعين "

عاد بعد أسبوعين ..

" لم يحدث شيء أيها الطبيب "

" ماذا شعرت خلال الأيام الماضية؟ "

" لا شيء يُذكر، القليل من الارق، لا أشعر باني امتلكت موهبه مميزه، أريد شيئاً أقوى "

" حسنا، لنجعل الجُرعة الثانية من الدرجة الأشدّ "

" لنُجرب شيئاً من آلام النساء "

" حُقنه كل ثمان ساعات لمدة أسبوع وعُد اليّ لنرى النتيجة "

عاد بعد يومين بوجه شاحب وجسد هزيل، 

نظر اليه الطبيب بقلق " أكل شيء على ما يرام ؟"

" لقد كانت الجُرعة شديده أخذتها أول يومين وبدأت آثارها شديدة علي، لم يتقبّلها جسدي 

أريدك أن تزيحها عني "

" للأسف الالام من المتبرعين لا يمكن إخراجها مره أخرى عندما يتم حقنها، لكنها ستزول  تدريجياً"

عاد بعد أسبوع وقد نحل أكثر وبرزت عظام وجهه، جحظت عينيه، وتساقط شعره، برزت أسنانه بشكل مُخيف 

تهادى جسده على الكرسي ..

 " لا أستطيع تحمّل الألم أخرجه مني، أريده أن يخرج، بتُّ أشعر أنه يزداد سوءً وينمو كل يوم،

 إنه يقتلني ..

ما هو نوع الألم الذي حقنتني به ؟ الم من ؟ "

فتح الطبيب ملف المُتبرع فاذا هي امرأة في أواخر السبعين، تُعاني من أمراض الشيخوخة، مسح سريعا كافة التاريخ الألمى لها فوجد سطراً في آخر الملف كُتب فيه

قد تخلّى عنها أبناؤها بعد أن شاخت ..